فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



تنبيه:
إن هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بين الخفيفة والنافية.
{هنالك} أي: في ذلك الموقف من المكان العظيم الأهوال المتوالي الزلزال {تبلو} أي: تختبر {كل نفس} طائعة وعاصية {ما أسلفت} أي: ما قدّمت من عمل فتعاين نفعه وضرّه يؤدّي إلى سعادة أو شقاوة.
وقرأ حمزة والكسائي بتاءين من التلاوة، أي: تقرأ ذكر ما قدّمت أو من التلو فيتبع كل شخص عمله فيقوده إلى الجنة والنار والباقون بعد التاء باء موحدة من البلوى وهو الاختبار {وردّوا إلى الله} أي: إلى جزائه إياهم عما أسلفوا فلم يكن لهم قدرة على قصد غيره.
{مولاهم الحق} أي: ربهم ومتولي أمرهم على الحقيقة ولا التفات إلى سواه من تلك الأباطيل، بل انقطع رجاؤهم من كل ما يدعونه في الدنيا وهو المراد بقوله تعالى: {وضلّ عنهم} أي: ذهب وبطل وضاع.
{ما كانوا يفترون} أي: يتعمدون كذبه من أنّ معبوداتهم شركاء، وتيقنوا في ذلك المقام أن توليهم لغير الله كان باطلًا غير حق. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ}
لما ذكر الله سبحانه ما تقدّم من متاع الدنيا، جاء بكلام مستأنف يضمن بيان حالها وسرعة تقضيها، وأنها تعود بعد أن تملأ الأعين برونقها، وتجتلب النفوس ببهجتها.
وتحمل أهلها على أن يسفكوا دماء بعضهم بعضًا، ويهتكوا حرمهم حبًا لها، وعشقًا لجمالها الظاهري، وتكالبًا على التمتع بها، وتهافتًا على نيل ما تشتهي الأنفس منها بضرب من التشبيه المركب، فقال: {إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء} إلى آخر الآية.
والمعنى: أن مثلها في سرعة الذهاب والاتصاف بوصف يضادّ ما كانت عليه ويباينه، مثل ما على الأرض من أنواع النبات في زوال رونقه، وذهاب بهجته، وسرعة تقضيه، بعد أن كان غضًا مخضرًا طريًا قد تعانقت أغصانه المتمايلة، وزهت أوراقه المتصافحة، وتلألأت أنوار نوره، وحاكت الزهر أنواع زهره، وليس المشبه به هو ما دخله الكاف في قوله: {كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء} بل ما يفهم من الكلام، والباء في: {فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض} للسببية، أي فاختلط بسببه نبات الأرض بأن اشتبك بعضه ببعض، حتى بلغ إلى حدّ الكمال، ويحتمل أن يراد أن النبات كان في أوّل بروزه، ومبدأ حدوثه غير مهتز ولا مترعرع، فإذا نزل الماء عليه اهتز وربا، حتى اختلط بعض الأنواع ببعض {مِمَّا يَأْكُلُ الناس والأنعام} من الحبوب والثمار، والكلأ والتبن، وأخذت الأرض زخرفها.
قال في الصحاح الزخرف: الذهب، ثم يشبه به كل مموّه مزوّر. انتهى.
والمعنى: أن الأرض أخذت لونها الحسن المشابه بعضه للون الذهب، وبعضه للون الفضة، وبعضه للون الياقوت، وبعضه للون الزمرّد.
وأصل ازينت: تزينت أدغمت التاء في الزاي، وجيء بألف الوصل؛ لأن الحرف المدغم مقام حرفين أولهما ساكن.
والساكن لا يمكن الابتداء به.
وقرأ ابن مسعود وأبيّ بن كعب {وتزينت} على الأصل.
وقرأ الحسن والأعرج وأبو العالية {وأزينت} على وزن أفعلت: أي أزينت بالزينة التي عليها، شبهها بالعروس التي تلبس الثياب الجيدة المتلونة ألوانًا كثيرة.
وقال عوف بن أبي جميلة: قرأ أشياخنا {وازيانت} على وزن اسوادّت، وفي رواية المقدمى {وازانت} والأصل فيه تزاينت على وزن تفاعلت.
وقرأ الشعبي وقتادة {أزينت}، ومعنى هذه القراءات كلها هو ما ذكرنا {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} أي: غلب على ظنونهم أو تيقنوا أنهم قادرون على حصادها والانتفاع بها، والضمير في عليها للأرض، والمراد: النبات الذي هو عليها {أَتَاهَا أَمْرُنَا} جواب إذا، أي: جاءها أمرنا بإهلاكها واستئصالها وضربها ببعض العاهات {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا} أي: جعلنا زرعها شبيهًا بالمحصود في قطعه من أصوله.
قال أبو عبيدة: الحصيد: المستأصل {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس} أي: كأن لم يكن زرعها موجودًا فيها بالأمس: مخضرًّا طريًا، من غنى بالمكان بالكسر يغنى بالفتح إذا أقام به، والمراد بالأمس الوقت القريب، والمغاني في اللغة: المنازل.
وقال قتادة: كأن لم تنعم، قال لبيد:
غنيت سنينًا قبل مجرى داحس ** لو كان للنفس اللجوج خلود

وقرأ قتادة {كن لم يغن} بالتحتية بإرجاع الضمير إلى الزخرف.
وقرأ من عداه {تَغْنَ} بالفوقية بإرجاع الضمير إلى الأرض {كذلك} أي: مثل ذلك التفصيل البديع {نُفَصّلُ الآيات} القرآنية التي من جملتها هذه الآية: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فيما اشتملت عليه، ويجوز أن يراد الآيات التكوينية.
قوله: {والله يَدْعُو إلى دَارِ السلام} لما نفر عباده عن الميل إلى الدنيا بما ضربه لهم من المثل السابق، رغبهم في الدار الآخرة بإخبارهم بهذه الدعوة منه عزّ وجلّ إلى دار السلام، قال الحسن وقتادة: السلام هو: الله تعالى، وداره الجنة.
وقال الزجاج: المعنى والله يدعو إلى دار السلامة.
ومعنى السلام والسلامة واحد كالرضاع والرضاعة.
ومنه قول الشاعر:
تحيى بالسلامة أمّ بكر ** وهل لك بعد قومك من سلام

وقيل: أراد دار السلام الذي هو: التحية؛ لأن أهلها ينالون من الله السلام بمعنى: التحية، كما في قوله: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام} [إبراهيم: 23].
وقيل: السلام اسم لأحد الجنان السبع: أحدها: دار السلام، والثانية: دار الجلال، والثالثة: جنة عدن، والرابعة: جنة المأوى، والخامسة: جنة الخلد، والسادسة: جنة الفردوس، والسابعة: جنة النعيم.
وقيل المراد: دار السلام الواقع من المؤمنين بعضهم على بعض في الجنة، وقد اتفقوا على أن دار السلام هي الجنة، وإنما اختلفوا في سبب التسمية بدار السلام {وَيَهْدِى مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} جعل سبحانه الدعوة إلى دار السلام عامة، والهداية خاصة بمن يشاء أن يهديه، تكميلًا للحجة وإظهارًا للاستغناء عن خلقه.
ثم قسم سبحانه أهل الدعوة إلى قسمين، وبين حال كل طائفة فقال: {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} أي: الذين أحسنوا بالقيام بما أوجبه الله عليهم من الأعمال، والكفّ عما نهاهم عنه من المعاصي، والمراد بالحسنى المثوبة الحسنى.
قال ابن الأنباري: العرب توقع هذه اللفظة على الخصلة المحبوبة المرغوب فيها، ولذلك ترك موصوفها؛ وقيل المراد بالحسنى: الجنة، وأما الزيادة فقيل المراد بها: ما يزيد على المثوبة من التفضل، كقوله: {لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} [فاطر: 30] وقيل الزيادة: النظر إلى وجهه الكريم.
وقيل: الزيادة: هي: مضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها.
وقيل: الزيادة: غرفة من لؤلؤ، وقيل الزيادة: مغفرة من الله ورضوان.
وقيل: هي أنه سبحانه يعطيهم في الدنيا من فضله ما لا يحاسبهم عليه.
وقيل: غير ذلك، مما لا فائدة في ذكره، وسيأتي بيان ما هو الحق في آخر البحث: {وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ} معنى {يرهق}: يلحق، ومنه قيل: غلام مراهق، إذا لحق بالرجال، وقيل يعلو، وقيل يغشى، والمعنى متقارب؛ والقتر: الغبار، ومنه قول الفرزدق:
متوّج برداء الملك يتبعه ** موج ترى فوقه الرايات والقترا

وقرأ الحسن {قتر} بإسكان المثناة، والمعنى واحد، قاله النحاس، وواحد القتر قترة، والذلة: ما يظهر على الوجه من الخضوع والإنكسار والهوان، والمعنى: أنه لا يعلو وجوههم غبرة، ولا يظهر فيها هوان؛ وقيل القتر: الكآبة، وقيل: سواد الوجوه، وقيل: هو دخان النار {أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون} الإشارة إلى المتصفين بالصفات السابقة هم أصحاب الجنة الخالدون فيها، المتنعمون بأنواع نعيمها {والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا} هذا الفريق الثاني من أهل الدعوة، وهو معطوف على {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} كأنه قيل: وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، أو يقدر.
وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها: أي يجازي سيئة واحدة بسيئة واحدة، لا يزاد عليها، وهذا أولى من الأوّل، لكونه من باب العطف على معمولي عاملين مختلفين، والمراد بالسيئة: إما الشرك، أو المعاصي التي ليست بشرك، وهي ما يتلبس به العصاة من المعاصي، قال ابن كيسان: الباء زائدة، والمعنى: جزاء سيئة مثلها؛ وقيل: الباء مع ما بعدها الخبر، وهي متعلقة بمحذوف قامت مقامه، والمعنى: جزاء سيئة كائن بمثلها، كقولك إنما أنا بك، ويجوز أن يتعلق بجزاء، والتقدير جزاء سيئة بمثلها كائن، فحذف خبر المبتدأ، ويجوز أن يكون {جَزَاء} مرفوعًا على تقدير: فلهم جزاء سيئة، فيكون مثل قوله: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أي: فعليه عدّة.
والباء على هذا التقدير متعلقة بمحذوف، كأنه قال: لهم جزاء سيئة ثابت بمثلها، أو تكون مؤكدة أو زائدة.
قوله: {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أي يغشاهم هوان وخزي.
وقرئ {يرهقهم} بالتحتية {لَهُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} أي: لا يعصمهم أحد كائنًا من كان من سخط الله وعذابه، أو مالهم من جهة الله ومن عنده من يعصمهم كما يكون للمؤمنين، والأوّل: أولى، والجملة في محل نصب على الحالية، أو مستأنفة {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ الليل مُظْلِمًا} قطعًا جمع قطعة، وعلى هذا يكون مظلمًا منتصبًا على الحال من الليل: أي أغشيت وجوههم قطعًا من الليل في حالة ظلمته.
وقد قرأ بالجمع جمهور القراء.
وقرأ الكسائي وابن كثير {قطعا} بإسكان الطاء، فيكون {مظلمًا} على هذا صفة لـ {قطعا}، ويجوز أن يكون حالًا من {الليل}.
قال ابن السكيت: القطع طائفة من الليل {أولئك} أي: الموصوفون بهذه الصفات الذميمة {أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} وإطلاق الخلود هنا مقيد بما تواتر في السنة من خروج عصاة الموحدين.
قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} الحشر الجمع، وجميعًا منتصب على الحال {وَيَوْمَ} منصوب بمضمر: أي أنذرهم يوم نحشرهم، والجملة مستأنفة لبيان بعض أحوالهم القبيحة.
والمعنى: أن الله سبحانه يحشر العابد والمعبود لسؤالهم {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ} في حالة الحشر، ووقت الجمع تقريعًا لهم على رءوس الأشهاد، وتوبيخًا لهم مع حضور من يشاركهم في العبادة، وحضور معبوداتهم {مَكَانَكُمْ} أي: الزموا مكانكم، واثبتوا فيه، وقفوا في موضعكم {أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ} هذا الضمير تأكيد للضمير الذي في مكانكم لسدّه مسدّ الزموا، و{شركاؤكم} معطوف عليه.
وقرئ بنصب {شركاؤكم} على أن الواو واو مع.
قوله: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} أي: فرّقنا وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا: يقال زيلته فتزيل: أي فرقته فتفرق، والمزايلة المفارقة، يقال زايله مزايلة، وزيالًا إذا فارقه، والتزايل التباين.
قال الفراء: وقرأ بعضهم: {فزايلنا} والمراد بالشركاء هنا: الملائكة.
وقيل الشياطين، وقيل الأصنام، وإن الله سبحانه ينطقها في هذا الوقت.
وقيل: المسيح، وعزير، والظاهر أنه كل معبود للمشركين كائنًا ما كان، وجملة: {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} في محل نصب على الحال بتقدير قد، والمعنى: وقد قال شركاؤهم الذين عبدوهم وجعلوهم شركاء لله سبحانه ما كنتم إيانا تعبدون، وإنما عبدتم هواكم وضلالكم، وشياطينكم الذين أغووكم، وإنما أضاف الشركاء إليهم مع أنهم جعلوهم شركاء لله سبحانه، لكونهم جعلوا لهم نصيبًا من أموالهم، فهم شركاؤهم في أموالهم من هذه الحيثية.
وقيل: لكونهم شركاؤهم في هذا الخطاب، وهذا الجحد من الشركاء وإن كان مخالفًا لما قد وقع من المشركين من عبادتهم، فمعناه إنكار عبادتهم إياهم عن أمرهم لهم بالعبادة {فكفى بالله شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} إن كنا أمرناكم بعبادتنا، أو رضينا ذلك منكم {إِن كُنَّا عَن عِبَادَتِكُمْ لغافلين} إن هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، والقائل لهذا الكلام هم: المعبودون.
قالوا لمن عبدهم من المشركين: إنا كنا عن عبادتكم لنا لغافلين، والمراد بالغفلة هنا: عدم الرضا بما فعله المشركون من العبادة لهم، وفي هذا دليل على أن هؤلاء المعبودين غير الشياطين، لأنهم يرضون بما فعله المشركون من عبادتهم، ويمكن أن يكونوا من الشياطين، ويحمل هذا الجحد منهم على أنهم لم يجبروهم على عبادتهم، ولا أكرهوهم عليها.
{هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ} أي: في ذلك المكان وفي ذلك الموقف، أو في ذلك الوقت على استعارة اسم الزمان للمكان تذوق كل نفس وتختبر جزاء ما أسلفت من العمل، فمعنى {تبلو}: تذوق وتختبر.
وقيل: تعلم.
وقيل: تتبع، وهذا على قراءة من قرأ {تبلو} بالمثناة الفوقية بإسناد الفعل إلى كل نفس؛ وأما على قراءة من قرأ: {نبلو} بالنون، فالمعنى: أن الله يبتلي كل نفس ويختبرها، ويكون ما أسلفت بدلًا من كل نفس.
والمعنى: أنه يعاملها معاملة من يختبرها ويتفقد أحوالها.